الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)} قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً} روى ابن حيان أن هذه الآية نزلت في رجل من أهل الطائف، يقال له: حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة، ومعه أبواه وامرأته، وله أولاد، فمات فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم، أبويه وأولاده من ميراثه، ولم يعط امرأته شيئا، غير أنه أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً. قوله تعالى: {وصية لأزواجهم} قرأ أبو عمرو، وحمزة، وابن عامر «وصية» بالنصب، وقرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي، «وصية» بالرفع. وعن عاصم كالقراءتين. قال أبو عليّ: من نصب حَمَلَهُ على الفعل، أي: ليوصوا وصية، ومن رفع، فمن وجهين. أحدهما: أن يجعل الوصية مبتدأ، والخبر لأزواجهم. والثاني: أن يضمر له خبراً، تقديره: فعليهم وصية. والمراد منه قارب الوفاة، فليوص، لأن المتوفى لا يؤمر ولا ينهى. قوله تعالى: {متاعاً إلى الحول} أي: متعوهن إلى الحول، ولا تخرجوهن. والمراد بذلك نفقة السنة وكسوتها وسكناها {فان خرجن} أي: من قبل أنفسهن {فلا جناح عليكم} يعني: أولياء الميت {فيما فعلن في أنفسهن من معروف} يعني التشوف إلى النكاح. وفي ماذا رفع الجناح عن الرجال؟ فيه قولان. أحدهما: أنه في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول. والثاني: في ترك منعهن من الخروج، لأنه لم يكن مقامُها الحولَ واجباً عليها، بل كانت مخيّرة في ذلك. فصل ذكر علماء التفسير أن أهل الجاهلية كانوا إذا مات أحدهم، مكثت زوجته في بيته حولاً، ينفق عليها من ميراثه، فاذا تم الحول، خرجت إلى باب بيتها، ومعها بعرة، فرمت بها كلباً، وخرجت بذلك من عدتها. وكان معنى رميها بالبعرة أنها تقول: مكثي بعد وفاة زوجي أهون عندي من هذه البعرة. ثم جاء الإسلام، فأقرهم على ما كانوا عليه من مكث الحول بهذه الآية، ثم نسخ ذلك بالآية المتقدمة في نظم القرآن على هذه الآية، وهي قوله تعالى: {والذين يُتوفَّون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً}. ونسخ الأمر بالوصية لها بما فرض لها من ميراثه.
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)} قوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف} قد سبق الكلام في المتعة بما فيه كفاية.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)} قوله تعالى: {كذلك يبين الله لكم آياته} أي: كما بيّن الذي تقدم من الأحكام {يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون} أي: يثبت لكم وصف العقلاء باستعمال ما بين لكم، وثمرة العقل استعمال الأشياء المستقيمة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} [النساء: 17]. وإنما سموا جهالاً، لأنهم آثروا أهواءهم على ما علموا أنه الحق.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)} قوله تعالى: {ألم تر إِلى الذين خرجوا من ديارهم} معناه: ألم تعلم. قال ابن قتيبة: وهذا على جهة التعجب، كما تقول: ألا ترى إلى ما يصنع فلان؟ قوله تعالى: {وهم ألوف} فيه قولان. أحدهما: أن معناه: وهم مؤتلفون، قاله ابن زيد. والثاني: أنه من العدد، وعليه العلماء واختلفوا في عددهم على سبعة أقوال. أحدها: أنهم كانوا أربعة آلاف. والثاني: أربعين ألفاً، والقولان عن ابن عباس. والثالث: تسعين ألفاً، قاله عطاء بن أبي رباح، والرابع: سبعة آلاف، قاله أبو صالح. والخامس: ثلاثين ألفاً، قاله أبو مالك. والسادس: بضعة وثلاثين ألفاً، قاله السدي، والسابع: ثمانية آلاف، قاله مقاتل. وفي معنى: حذرهم من الموت، قولان. أحدهما: أنهم فروا من الطاعون، وكان قد نزل بهم، قاله الحسن، والسدي. والثاني: أنهم أمروا بالجهاد، ففروا منه، قاله عكرمة، والضحاك، وعن ابن عباس، كالقولين. الإشارة الى قصتهم روى حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف قال: كانت أمَّة من بني إِسرائيل إذا وقع فيهم الوجع، خرج أغنياؤهم، وأقام فقراؤهم، فمات الذين أقاموا، ونجا الذين خرجوا، فقال الأشراف: لو أقمنا كما أقام هؤلاء لهلكنا، وقال الفقراء: لو ظعنا كما ظعن هؤلاء سلمنا، فأجمع رأيهم في بعض السنين على أن يظعنوا جميعاً، فظعنوا فماتوا، وصاروا عظاماً تبرق، فكنسهم أهل البيوت والطرق عن بيوتهم وطرقهم، فمر بهم نبي من الأنبياء، فقال: يا رب لو شئت أحييتهم، فعبدوك، وولدوا أولاداً يعبدونك، ويعمرون بلادك. [قال: أو أحب إليك أن أفعل؟ قال: نعم]. فقيل له: تكلم بكذا وكذا، فتكلم به، فنظر إلى العظام تخرج من عند العظام التي ليست منها، إلى التي هي منها، ثم قيل له: تكلم بكذا وكذا، فتكلم به، فنظر إلى العظام تكسى لحماً وعصباً، ثم قيل له: تكلم بكذا وكذا، فنظر فاذا هم قعود يسبحون الله ويقدسونه. وأنزل الله فيهم هذه الآية. وهذا الحديث يدل على بعد المدة التي مكثوا فيها أمواتاً. وفي بعض الأحاديث: أنهم بقوا أمواتاً سبعة أيام، وقيل: ثمانية أيام. وفي النبي الذي دعا لهم قولان. أحدهما: أنه حزقيل. والثاني: أنه شمعون. فإن قيل كيف أُميت هؤلاء مرتين وقد قال الله تعالى: {إِلا الموتة الاولى} [الدخان: 56]. فالجواب أن موتهم بالعقوبة لم يفن أعمارهم، فكان كقوله تعالى: {والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42]. وقيل كان إحياؤهم آية من آيات نبيهم، وآيات الأنبياء نوادر لا يقاس عليها، فيكون تقدير قوله تعالى: {إِلا الموتة الأولى} التي ليست من آيات الأنبياء، ولا لأمر نادر. وفي هذه القصة احتجاج على اليهود، إذ أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم، بأمر لم يشاهدوه، وهم يعلمون صحته واحتجاج على المنكرين للبعث، فدلهم عليه بإحياء الموتى في الدنيا، ذكر ذلك جميعه ابن الأنباري. قوله تعالى: {إِن الله لذو فضل على الناس} نبه عز وجل بذكر فضله على هؤلاء على فضله على سائر خلقه مع قلة شكرهم.
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)} قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله} في المخاطبين بهذا قولان. أحدهما: أنهم الذين أماتهم الله ثم أحياهم، قاله الضحاك. والثاني: خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمعناه: لا تهربوا من الموت، كما هرب هؤلاء، فما ينفعكم الهرب {واعملوا أن الله سميع} لأقوالكم {عليم} بما تنطوي عليه ضمائركم.
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله} قال الزجاج: أصل القرض ما يعطيه الرجل أو يفعله ليجازى عليه، وأصله في اللغة القطع، ومنه أخذ المقراض. فمعنى أقرضته: قطعت له قطعة يجازيني عليها. فإن قيل: ما وجه تسمية الصدقة قرضاً؟ فالجواب من ثلاثة أوجه. أحدهما: لأن هذا القرض يبدل بالجزاء، والثاني: لأنه يتأخر قضاؤه إلى يوم القيامة، والثالث: لتأكيد استحقاق الثواب به، إذ لا يكون قرض إلا والعوض مستحق به. فأما اليهود فإنهم جهلوا هذا، فقالوا: أيستقرض الله منا؟ وأما المسلمون فوثقوا بوعد الله، وبادروا إلى معاملته. قال ابن مسعود: لما نزلت هذه الآية، قال أبو الدحداح: وإن الله ليريد منا القرض؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: أرني يدك. قال: إني أقرضت ربي حائطي، قال: وحائطه فيه ستمائة نخلة، ثم جاء إلى الحائط، فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط، فقد أقرضته ربي. وفي بعض الألفاظ: فعمدت إلى صبيانها تخرج ما في أفواههم، وتنفض ما في أكمامهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح ". وفي معنى القرض الحسن ستة أقوال. أحدها: أنه الخالص لله، قاله الضحاك، والثاني: أن يخرج عن طيب نفس، قاله مقاتل، والثالث: أن يكون حلالا، قاله ابن المبارك. والرابع: أن يحتسب عند الله ثوابه، والخامس: أن لا يتبعه مناً ولا أذى، والسادس: أن يكون من خيار المال. قوله تعالى: {فيضاعفَه له} قرأ أبو عمرو فيضاعفه بألف مع رفع الفاء، كذلك في جميع القرآن، إلا في سورة الأحزاب {يضعف لها العذاب ضعفين} وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، جميع ذلك بالألف مع رفع الفاء، وقرأ ابن كثير {فيضعفه} برفع الفاء من غير ألف في جميع القرآن، وقرأ ابن عامر {فيضعفه} بغير ألف مشددة في جميع القرآن، ووافقه عاصم على نصب الفاء في «فيضاعفه» إلا أنه أثبت الألف في جميع القرآن. قال أبو علي: للرفع وجهان. أحدهما: أن يعطفه على ما في الصلة، وهو يقرض، والثاني: أن يستأنفه، ومن نصب حمل الكلام على المعنى، لأن المعنى: أيكون قرض؟ فحمل عليه «فيضاعفه» وقال: ومعنى ضاعف وضعف: واحد، والمضاعفة: الزيادة على الشيء حتى يصير مثلين أو أكثر. وفي الأضعاف الكثيرة قولان. أحدهما: أنها لا يحصى عددها، قاله ابن عباس، والسدي. وروى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال: إن الله يكتب للمؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة. وقرأ هذه الآية، ثم قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم، يقول: " إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة " والثاني: أنها معلومة المقدار، فالدرهم بسبعمائة، كما ذكر في الآية التي بعدها، قاله ابن زيد. قوله تعالى: {والله يقبض ويبسط} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، «يبسط» و«بسطة» بالسين، وقرأهما نافع بالصاد. وفي معنى الكلام قولان. أحدهما: أن معناه: يقتر على من يشاء في الرزق، ويبسطه على من يشاء، قاله ابن عباس، والحسن، وابن زيد. والثاني: يقبض يد من يشاء عن الإنفاق في سبيله، ويبسط يد من يشاء بالإنفاق، قاله أبو سليمان الدمشقي في آخرين.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)} قوله تعالى: {ألم تر إِلى الملأ من بني إِسرائيل} قال الفراء: الملأ: الرجال في كل القرآن لا يكون فيهم امرأة، وكذلك القوم والنفر والرهط. وقال الزجاج: الملأ: هم الوجوه، وذوو الرأي، وإنما سمّوا ملأً، لأنهم مليؤون بما يحتاج إليه منهم. وفي نبيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه شمويل، قاله ابن عباس، ووهب. والثاني: أنه يوشع بن نون، قاله قتادة. والثالث: أنه نبي، يقال له: سمعون بالسين المهملة، سمته أمه بذلك، لأنها دعت الله أن يرزقها غلاماً، فسُمِع دعاؤها فيه، فسمته، هذا قول السدي. وسبب سؤالهم ملكاً أن عدوهم غلب عليهم. قوله تعالى: {نقاتلْ} قراءة الجمهور بالنون والجزم، وقرأ ابن أبي عبلة بالياء والرفع، كناية عن الملك. قوله تعالى: {هل عسيتم} قراءة الجمهور بفتح السين، وقرأ نافع بكسرها هاهنا، وفي سورة «محمد» وهي لغتان. قوله تعالى: {إِن كتب عليكم القتال} أي: فرض {ألا تقاتلوا} أي: لعلكم تجبنون. قوله تعالى: {وقد أُخرجنا من ديارنا} يعنون: أُخرج بعضنا، وهم الذين سبوا منهم وقهروا، فظاهره العموم، ومعناه الخصوص. قوله تعالى: {تولوا} أي: أعرضوا عن الجهاد. {إِلا قليلاً} وهم الذين عبروا النهر، وسيأتي ذكرهم.
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)} قوله تعالى: {وقال لهم نبيهم إِن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً} ذكر أهل التفسير أن نبي بني إسرائيل سأل الله أن يبعث لهم ملكاً، فأتى بعصا وقرن فيه دهن، وقيل له: إن صاحبكم الذي يكون ملكاً يكون طوله طول هذه العصا، ومتى دخل عليك رجل، فنشق الدهن، فهو الملك، فادهن به رأسه، وملكه على بني إسرائيل، فقاس القوم أنفسهم بالعصا، فلم يكونوا على مقدارها. قال عكرمة، والسدي: كان طالوت سقاءً يسقي على حمار له، فضلَّ حماره، فخرج يطلبه، وقال وهب: بل كان دباغاً يعمل الأدم، فضلت حمرٌ لأبيه، فأرسل مع غلام له في طلبها، فمرا ببيت شمويل النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلا ليسألاه عن ضالتهما، فنشق الدهن، فقام شمويل فقاس طالوت بالعصا، وكان على مقدارها، فدهنه، ثم قال له: أنت ملك بني إسرائيل، فقال طالوت: أما علمت أن وسطي أدنى أسباط بني إسرائيل، وبيتي أدنى بيوتهم؟ قال: بلى، قال فبأية آية؟ قال بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، فكان كما قال. قال الزجاج: طالوت، وجالوت، وداود، لا تصرف، لأنها أسماء أعجمية، وهي معارف، فاجتمع فيها التعريف والعجمة. ومعنى قوله تعالى: {أنى له الملك} من أي جهة يكون له الملك علينا. قال ابن عباس: إنما قالوا ذلك، لأنه كان في بني إسرائيل سبطان، في أحدهما النبوة، وفي الآخر الملك، فلم يكن هو من أحد السبطين. قال قتادة. كانت النبوة في سبط لاوي، والملك في سبط يهوذا. قوله تعالى: {ولم يؤت سعة من المال} أي: لم يؤت ما يتملك به الملك {قال إِن الله اصطفاه عليكم} أي: اختاره، وهو «افتعل» من الصفوة. والبسطة: السعة، قاله ابن قتيبة: هو من قولك: بسطت الشيء: إِذا كان مجموعاً، ففتحته، ووسعته. قال ابن عباس: كان طالوت أعلم بني إسرائيل بالحرب، وكان يفوق الناس بمنكبيه وعنقه ورأسه. وهل كانت هذه الزيادة قبل الملك، أم أحدثت له بعد الملك؟ فيه قولان. أحدهما: قبل الملك، قاله وهب، والسدي. والثاني: بعد الملك، قاله ابن زيد. والمراد بتعظيم الجسم، فضل القوة، إذ العادة أن من كان أعظم جسماً، كان أكثر قوة والواسع: الغني.
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)} قوله تعالى: {وقال لهم نبيهم إن آية ملكه} الآية: العلامة، فمعناه: علامة تمليك الله إياه {أن يأتيكم التابوت} وهذا من مجاز الكلام، لأن التابوت يؤتى به، ولا يأتي، ومثله: {فاذا عزم الأمر} وإنما جاز مثل هذا، لزوال اللبس فيه، كما بينا في قوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم} [البقرة: 16]. وروي عن ابن مسعود، وابن عباس: أنهم قالوا لنبيهم: إن كنت صادقاً، فأتنا بآية تدل على أنه ملك، فقال لهم ذلك. وقال وهب: خيّرهم، أي آية يريدون، فقالوا: أن يردَّ علينا التابوت. قال ابن عباس: كان التابوت من عود الشمشار عليه صفائح الذهب، وكان يكون مع الأنبياء إذا حضروا قتالاً قدموه بين أيديهم يستنصرون به، وفيه السكينة. وقال وهب بن منبه: كان نحواً من ثلاث أذرع في ذراعين. قال مقاتل: فلما تفرقت بنو إسرائيل، وعصوا الأنبياء، سلط الله عليهم عدوهم، فغلبوهم عليه، وفي السكينة سبعة أقوال. أحدها: أنها ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان، رواه أبو الأحوص عن علي رضي الله عنه. والثاني: أنها دابة بمقدار الهرّ، لها عينان لها شعاع، وكانوا إذا التقى الجمعان، أخرجت يدها، ونظرت إليهم، فيهزم الجيش من الرعب. رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال مجاهد: السكينة لها رأس كرأس الهرّة، وجناحان. والثالث: أنها طست من ذهب [من الجنة] تغسل فيه قلوب الأنبياء. رواه أبو مالك عن ابن عباس. والرابع: أنها روح من الله تتكلم، كانوا إذا اختلفوا في شيء كلمتهم وأخبرتهم ببيان ما يريدون، رواه عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه. والخامس: أن السكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها، رواه ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح، وذهب إلى نحوه الزجاج، فقال: السكينة: من السكون، فمعناه: فيه ما تسكنون إليه إذا أتاكم. والسادس: أن السكنية معناها هاهنا: الوقار، رواه معمر عن قتادة. والسابع أن السكينة: الرحمة. قاله الربيع بن أنس. وفي البقية تسعة أقوال. أحدها أنها رضاض الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى وعصاه، قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي. والثاني: أنها رضاض الألواح. قاله عكرمة، ولم يذكر العصا. وقيل: إنما اتخذ موسى التابوت ليجمع رضاض الألواح فيه. والثالث: أنها عصا موسى، والسكينة، قاله وهب. والرابع: عصا موسى، وعصا هارون، وثيابهما، ولوحان من التوراة، والمنُّ، قاله أبو صالح. والخامس: أن البقية، العلم والتوراة، قاله مجاهد، وعطاء بن أبي رباح. والسادس: أنها رضاض الألواح، وقفيز من مَنٍّ في طست من ذهب، وعصا موسى وعمامته، قاله مقاتل. والسابع: أنه قفيز من مَنٍّ ورضاض الألواح، حكاه سفيان الثوري عن بعض العلماء. والثامن: أنها عصا موسى والنعلان. ذكره الثوري أيضاً عن بعض أهل العلم. والتاسع: أن المراد بالبقية: الجهاد في سبيل الله، وبذلك أمروا، قاله الضحاك. والمراد بآل موسى، وآل هارون: موسى، وهارون. وأنشد أبو عبيدة: ولا تبك ميتاً بعد ميت أحبة *** عليّ وعباس وآل أبي بكر يريد: أبا بكر نفسه. قوله تعالى: {تحمله الملائكة} قرأ الجمهور: «تحمله» بالتاء، وقرأ الحسن، ومجاهد، والأعمش بالياء. وفي المكان الذي حملته منه الملائكة إليهم قولان. أحدهما: أنه كان مرفوعاً مع الملائكة بين السماء والأرض، منذ خرج عن بني إسرائيل، قاله الحسن. والثاني: أنه كان في الأرض. وفي أي مكان كان؟ فيه قولان. أحدهما: أنه كان في أيدي العمالقة قد دفنوه، قال ابن عباس: أخذ التابوت قوم جالوت، فدفنوه في متبرز لهم، فأخذهم الباسور فهلكوا، ثم أخذه أهل مدينة أخرى، فأخذهم بلاء، فهلكوا، ثم أخذه غيرهم كذلك، حتى هلكت خمس مدائن، فأخرجوه على بقرتين، ووجهوهما إلى بني إسرائيل، فساقتهما الملائكة. والثاني: أنه كان في برية التيه، خلّفه فيها يوشع، ولم يعلموا بمكانه حتى جاءت به الملائكة، قاله قتادة. وفي كيفية مجيء الملائكة به قولان. أحدهما: أنها جاءت به بأنفسها، قال وهب: قالوا لنبيهم: اجعل لنا وقتاً يأتينا فيه، فقال: الصبح، فلم يناموا ليلتهم، ووافت به الملائكة مع الفجر، فسمعوا حفيف الملائكة تحمله بين السماء والأرض. والثاني: أن الملائكة جاءت به على عجلة وثورين، ذكر عن وهب أيضاً. فعلى القول الأول: يكون معنى تحمله: تقله. وعلى الثاني: يكون معنى حملها إياه: تسببها في حمله، قال الزجاج: ويجوز في اللغة أن يقال: حملت الشيء إذا كنت سبباً في حمله. قوله تعالى: {إِن في ذلك لآية لكم} أي: علامة تدل على تمليك طالوت. قال المفسرون: فلما جاءهم التابوت وأقروا له بالملك، تأهب للخروج، فأسرعوا في طاعته، وخرجوا معه، فذلك قوله تعالى.
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} قوله تعالى: {فلما فصل طالوت بالجنود} أي: خرج وشخص. وفي عدد من خرج معه ثلاثة أقوال. أحدها: سبعون ألفاً، قاله ابن عباس. والثاني: ثمانون ألفاً، قاله عكرمة والسدي. والثالث: مائة ألف، قاله مقاتل. قال: وساروا في حر شديد، فابتلاهم الله بالنهر. والابتلاء: الاختبار. وفي النهر لغتان: إحداهما: تحريك الهاء، وهي قراءة الجمهور، والثاني: تسكينها، وبها قرأ الحسن ومجاهد، وفي هذا النهر قولان. أحدهما: أنه نهر فلسطين قاله ابن عباس والسدي، والثاني: نهر بين الأردن وفلسطين، قاله عكرمة، وقتادة، والربيع بن أنس، ووجه الحكمة في ابتلائهم به أن يعلم طالوت من له نية في القتال منهم ومن ليس له نية. قوله تعالى: {ليس مني} أي ليس من أصحابي. قوله تعالى: {إِلا من اغترف غُرفةً} قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، «غَرفة» بفتح الغين، وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي بضمها، قال الزجاج: من فتح الغين، أراد المرة الواحدة باليد، ومن ضمها، أراد ملء اليد. وزعم مقاتل أن الغرفة كان يشرب منها الرجل، ودابته، وخدمه ويملأ قربته. وقال بعض المفسرين: لم يرد به غرفة الكف، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة، أو ما أشبه ذلك. وفي عدد القليل الذين لم يشربوا إلا غرفة قولان. أحدهما: أنهم أربعة آلاف، قاله عكرمة والسدي. والثاني: ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وهو الصحيح، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قاله لأصحابه يوم بدر: " أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقاء جالوت " وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. قوله تعالى: {لا طاقة لنا} أي: لا قوة لنا، قال الزجاج: يقال: أطقت الشيء إطاقة وطاقة، وطوقاً، مثل قولك: أطعته إطاعة وطاعة وطوعاً. واختلفوا في القائلين لهذا على ثلاثة أقوال أحدها: أنهم الذين شربوا أكثر من غرفة، فإنهم انصرفوا، ولم يشهدوا، وكانوا أهل شك ونفاق، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: أنهم الذين قلت بصائرهم من المؤمنين، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد. والثالث: أنه قول الذين جاوزوا معه، وإنما قال ذلك بعضهم لبعض، لما رأوا من قلتهم، وهذا اختيار الزجاج. قوله تعالى {قال الذين يظنون} في هذا الظن قولان. أحدهما: أنه بمعنى اليقين، قاله السدي في آخرين. والثاني: أنه الظن الذي هو التردد، فان القوم توهموا لقلة عددهم أنهم سيقتلون فيلقون الله، قاله الزجاج في آخرين. وفي الظانين هذا الظن قولان. أحدهما: أنهم الثلاثمائة والثلاثة عشر، قالوا للراجعين: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة، قاله السدي. والثاني: أنهم أُولو العزم والفضل من الثلاثمائة والثلاثة عشر. والفئة: الفرقة، قال الزجاج: وإنما قيل لهم: فئة من قولهم: فأوت رأسه بالعصا، وفأيته: إذا شققته. قوله تعالى: {باذن الله} قال الحسن: بنصر الله. قوله تعالى: {والله مع الصابرين} أي: بالنصر والإعانة.
{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)} قوله تعالى: {ولما برزوا} أي: صاروا بالبراز من الأرض، وهو ما ظهر واستوى. و{أفرغ} بمعنى اصبب {وثبت أقدامنا} أي: قوِّ قلوبنا لتثبيت أقدامنا، وإنما تثبت الأقدام عند قوة القلوب، قال مقاتل: كان جالوت وجنوده يعبدون الأوثان.
{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} قوله تعالى: {فهزموهم} أي: كسروهم وردوهم، قال الزجاج: أصل الهزم في اللغة: كسر الشيء، وثني بعضه على بعض، يقال: سقاء منهزم [ومهزم] إذا كان بعضه قد ثني على بعض مع جفاف، وقصب منهزم: قد كسر وشقق، والعرب تقول: هزمت على زيد، أي: عطفت عليه. قال الشاعر: هزمت عليك اليوم يا ابنة مالك *** فجودي علينا بالنوال وأنعمي ويقال: سمعت هزمة الرعد، قال الأصمعي: كأنه صوت فيه تشقق. وداود: هو نبي الله أبو سليمان، وهو اسم أعجمي، وقيل: إن إخوة داود كانوا مع طالوت، فمضى داود لينظر إليهم، فنادته أحجار: خذني، فأخذها، وجاء إلى طالوت، فقال: مالي إن قتلت جالوت، فقال: ثلث ملكي، وأنكحك ابنتي، فقتل جالوت. قوله تعالى: {وآتاه الله الملك} يعني آتى داود ملك طالوت. وفي المراد ب «الحكمة» هاهنا قولان. أحدهما: أنها النبوة، قاله ابن عباس. والثاني: الزبور، قاله مقاتل. قوله تعالى: {وعلمه مما يشاء} فيه ثلاثة أقوال. أحدها: أنها صنعة الدروع. والثاني: الزبور. والثالث: منطق الطير. قوله تعالى: {ولولا دفعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعض} قرأ الجمهور {دفعُ الله} بغير ألف هاهنا، وفي «الحج» وقرأ نافع، ويعقوب، وأبان {ولولا دفاع} بألف فيهما. قال أبو علي المعنيان متقاربان، قال الشاعر: ولقد حَرصتُ بأن أدافع عنهمُ *** فاذا المنية أقبلت لا تدفع وفي معنى الكلام قولان. أحدهما: أن معناه: لولا أن الله يدفع بمن أطاعه عمن عصاه، كما دفع عن المتخلفين عن طالوت بمن أطاعه، لهلك العُصاة بسرعة العقوبة، قاله مجاهد. والثاني: أن معناه، لولا دفع الله المشركين بالمسلمين، لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المسلمين، وخربوا المساجد، قاله مقاتل: ومعنى: {لفسدت الأرض} لهلك أهلها.
{تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)} قوله تعالى: {تلك آيات الله نتلوها عليك} أي: نقص عليك من أخبار المتقدمين. {وإنك لمن المرسلين} حُكمُك حكمهم، فمن صدقك، فسبيله سبيل من صدقهم، ومن عصاك، فسبيله سبيل من عصاهم. الجزء الثالث {تلك الرسل فضَّلنا بعضَهم على بعضٍ منهم من كلم اللهُ ورفع بعضَهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القُدُس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكنَّ الله يفعل ما يريد
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)} قوله تعالى: {منهم من كلم اللهُ} يعني: موسى عليه السلام. وقرأ أبو المتوكل، وأبو نهيك، وابن السّميفع: منهم من كالم الله بألف خفيفة اللام، ونصب اسم «الله». وفي المراد بقوله: {ورفع بعضهم درجات} قولان. أحدهما: عنى بالمرفوع درجات، محمداً صلى الله عليه وسلم، فإنه بعث إلى الناس كافة، وغيره بعث إلى أمته خاصة، هذا قول مجاهد. والثاني: أنه عنى تفضيل بعضهم على بعض فيما آتاه الله، هذا قول مقاتل. قال ابن جرير الطبري: والدرجات: جمع درجة، وهي المرتبة، وأصل ذلك: مراقي السلَّم ودَرجه، ثم يستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب. وقد تقدم تفسير «البينات» و«روح القدس». قوله تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم} أي: من بعد الأنبياء. وقال قتادة: من بعد موسى وعيسى عليهما السلام. قال مقاتل: وكان بينهما ألف نبي. قوله تعالى: {ولكن اختلفوا} يعني: الأمم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم} هذه الآية تحث على الصدقات، والإنفاق في وجوه الطاعات. وقال الحسن: أراد الزكاة المفروضة. قوله تعالى: {من قبل أن يأتيَ يوم} يعني: يوم القيامة {لا بيع فيه} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو {لا بيعَ فيه ولا خلةَ ولا شفاعةَ} بالنصب من غير تنوين، ومثله في «إبراهيم» {لا بيعَ فيه} وفي الطور {لا لغوَ فيها ولا تأثيمَ} وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي. جميع ذلك بالرفع والتنوين. قال ابن عباس: لا فدية فيه، وقيل: إنما ذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة، وأخذ البدل. والخلة: الصداقة. وقيل: إنما نفى هذه الأشياء، لأنه عنى عن الكافرين، وهذه الأشياء لا تنفعهم، ولهذا قال: {والكافرون هم الظالمون}
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} قوله تعالى: {الله لا إِله إِلا هو الحي القيوم} روى مسلم في «صحيحه» " عن أبيّ بِن كعب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله أعظم» قال: قلت: {الله لا إِله إِلا هو الحي القيوم}. قال: فضرب صدري، وقال «ليهنك العلم يا أبا المنذر» " قال: أبو عبيدة: القيوم: الذي لا يزول، لاستقامة وصفه بالوجود، حتى لا يجوز عليه التغيير بوجه من الوجوه. وقال الزجاج: القيوم: القائم: بتدبير أمر الخلق. وقال الخطابي: القيوم: هو القائم الدائم بلا زوال، وزنه: «فيعول» من القيام، وهو نعت للمبالغة للقيام على الشيء، ويقال: هو القائم على كل شيء بالرعاية، يقال: قمت بالشيء: إذا وليته بالرعاية والمصلحة. وفي «القيوم» ثلاث لغات القيّوم، وبه قرأ الجمهور، والقيّام، وبه قرأ عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن أبي عبلة، والأعمش، والقيم، وبه قرأ أبو رزين، وعلقمة. وذكر ابن الأنباري أنه كذلك في مصحف ابن مسعود، قال: وأصل القيوم: القيووم: فلما اجتمعت الياء والواو والسابق ساكن، جعلتا ياء مشددة. وأصل القيام: القوام، قال الفراء: وأهل الحجاز يصرفون الفعال [إلى] الفيعال، فيقولون للصواغ: صياغ. فأما «السِنَة» فهي: النعاس من غير نوم، ومنه: الوسنان. قال ابن الرقاع: وكأنها بين النساء أعارها *** عينيه أحور من جآذر جاسم وسنان أقصده النعاس فرنَّقت *** في عينه سنة وليس بنائم قوله تعالى: {له ما في السموات وما في الأرض} قال بعض العلماء: إنما لم يقل: والأرضين، لأنه قد سبق ذكر الجمع في السموات، فاستغنى بذلك عن إعادته، ومثله {وجعل الظلمات والنور} ولم يقل: الأنوار. قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إِلا بإذنه} فيه رد على من قال: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إِلى الله زلفى} [الزمر: 3]. قوله تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} ظاهر الكلام يقتضي الإشارة إلى جميع الخلق، وقال مقاتل: المراد بهم الملائكة. وفي المراد {بما بين أيديهم وما خلفهم} ثلاثة أقوال. أحدهما: أن الذي بين أيديهم أمر الآخرة، والذي خلفهم أمر الدنيا، روي عن ابن عباس، وقتادة. والثاني: أن الذي بين أيديهم الدنيا، والذي خلفهم الآخرة، قاله السدي عن أشياخه، ومجاهد، وابن جريج، والحكم بن عتيبة. والثالث: ما بين أيديهم: ما قبل خلقهم، وما خلفهم: ما بعد خلقهم، قاله مقاتل. قوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء} قال الليث: يقال لكل من أحرز شيئاً، أو بلغ علمه أقصاه: قد أحاط به. والمراد بالعلم هاهنا المعلوم {وسع كرسيه} أي: احتمل وأطاق. وفي المراد بالكرسي ثلاثة أقوال. أحدها: أنه كرسي فوق السماء السابعة دون العرش، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما السموات السبع في الكرسي إِلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة " وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء. والثاني: أن المراد بالكرسي علم الله تعالى. رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثالث: أن الكرسي هو العرش، قاله الحسن. قوله تعالى: {ولا يؤوده} أي: لا يثقله، يقال: آده الشيء يؤوده أوداً وإِياداً. والأود: الثقل، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والجماعة. والعلي: العالي القاهر، «فعيل» بمعنى «فاعل». وقال الخطابي: وقد يكون من العلو الذي هو مصدر: علا يعلو، فهو عال، كقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]. ويكون ذلك من علاء المجد والشرف، يقال منه: علي يعلى علاءً، ومعنى العظيم: ذو العظمة والجلال، والعظم في حقه تعالى، منصرف إلى عظم الشأن، وجلال القدر، دون العظم الذي هو من نعوت الأجسام.
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} قوله تعالى: {لا إِكراه في الدين} في سبب نزولها أربعة أقوال. أحدها: أن المرأة من نساء الأنصار كانت في الجاهلية إذا لم يعش لها ولد، تحلف: لئن عاش لها ولد لتهوّدنّه، فلما أجليت يهود بني النضير، كان فيهم ناس من أبناء الأنصار. فقال الأنصار: يا رسول الله أبناؤنا، فنزلت هذه الآية. هذا قول ابن عباس. وقال الشعبي: قالت الأنصار: والله لنكرهن أولادنا على الإسلام، فإنا إِنما جعلناهم في دين اليهود إذ لم نعلم ديناً أفضل منه، فنزلت هذه الآية. والثاني: أن رجلاً من الأنصار تنصّر لهو ولدان قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدما المدينة، فلزمهما أبوهما، وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. هذا قول مسروق. والثالث: أن ناساً كانوا مسترضعين في اليهود، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بني النضير، قالوا: والله لنذهبن معهم، ولندينن بدينهم، فمنعهم أهلوهم، وأرادوا إكراههم على الإسلام، فنزلت هذه الآية. والرابع: أن رجلاً من الأنصار كان له غلام اسمه صبيح، كان يكرهه على الإسلام، فنزلت هذه الآية. والقولان عن مجاهد. فصل واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية، فذهب قوم إلى أنه محكم، وأنه من العام المخصوص، فإنه خص منه أهل الكتاب بأنهم لا يكرهون على الإسلام، بل يخيّرون بينه، وبين أداء الجزية، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ليس الدين ما تدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه، ولم يشهد به القلب، وتنطوي عليه الضمائر، إنما الدين هو المنعقد بالقلب. وذهب قوم إلى أنه منسوخ، وقالوا هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال، فعلى قولهم، يكون منسوخاً بآية السيف، وهذا مذهب الضحاك، والسدي، وابن زيد، والدين هاهنا: أريد به الإسلام. والرشد: الحق، والغي: الباطل. وقيل: هو الإيمان والكفر. فاما الطاغوت؛ فهو اسم مأخوذ من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، قال ابن قتيبة: الطاغوت: واحد، وجمع، ومذكر، ومؤنث. قال الله تعالى: {أولياؤهم الطاغوت} وقال: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها} [الزمر: 17]. والمراد بالطاغوت هاهنا خمسة أقوال. أحدها: أنه الشيطان، قاله عمر، وابن عباس، ومجاهد، والشعبي، والسدي، ومقاتل في آخرين. والثاني: أنه الكاهن، قاله سعيد بن جبير، وأبو العالية. والثالث: أنه الساحر، قاله محمد بن سيرين. والرابع: أنه الأصنام، قاله اليزيدي، والزجاج. والخامس: أنه مردة أهل الكتاب، ذكره الزجاج أيضاً. قوله تعالى: {فقد استمسك بالعروة الوثقى} هذا مثلَ للإيمان، شبَّه التمسك به بالمتمسك بالعروة الوثيقة. وقال الزجاج: معنى الكلام: فقد عقد لنفسه عقداً وثيقاً والانفصام: كسر الشيء من غير إبانة.
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} قوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا} أي: متولي أمورهم، يهديهم، وينصرهم، ويعينهم. والظلمات: الضلالة، والنور: الهدى، والطاغوت: الشياطين، هنا قول ابن عباس، وعكرمة في آخرين. وقال مقاتل: الذين كفروا: هم اليهود، والطاغوت: كعب بن الأشرف. قال الزجاج: والطاغوت هاهنا: واحد في معنى جماعة، وهذا جائز في اللغة إذا كان في الكلام دليل على الجماعة. قال الشاعر: بها جيف الحسرى فأما عظامها *** فبيض وأما جلدها فصليب أراد جلودها، فان قيل: متى كان المؤمنون في ظلمة؟ ومتى كان الكفار في نور؟ فعنه ثلاثة أجوبة. أحدها: أن عصمة الله للمؤمنين عن مواقعة الضلال، إخراج لهم من ظلام الكفر، وتزيين قرناء الكفار لهم الباطل الذي يحيدون به عن الهدى، إخراج لهم من نور الهدى، و«الإخراج» مستعار هاهنا: وقد يقال للممتنع من الشيء: خرج منه، وإن لم يكن دخل فيه. قال تعالى: {إِني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله} [يوسف: 37]. وقال: {ومنكم من يردُّ إِلى أرذل العمر} [النحل: 70]. وقد سبقت شواهد هذا في قوله تعالى: {وإِلى الله ترجع الأمور} [البقرة: 210]. والثاني: أن إيمان أهل الكتاب بالنبي قبل أن يظهر نورٌ لهم، وكفرهم به بعد أن ظهر، خروج إلى الظلمات. والثالث: أنه لما ظهرت معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان المخالف له خارجاً من نور قد علمه، والموافق له خارجاً من ظلمات الجهل إلى نور العلم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} قوله تعالى: {ألم تر إِلى الذي حاج إِبراهيم في ربه} قد سبق معنى: {ألم تر}. وحاجّ: بمعنى خاصم، وهو نمروذ في قول الجماعة. قال ابن عباس: ملك الأرض شرقها وغربها؛ مؤمنان، وكافران؛ فالمؤمنان سليمان بن داود، وذو القرنين. والكافران: نمروذ، وبختنصر. قال ابن قتيبة: معنى الآية: حاجَّ إبراهيم، لأن الله آتاه الملك، فأعجب بنفسه [وملكه]. قوله تعالى: {إِذ قال إبراهيم ربيَ الذي يحيي ويميت} قال بعضهم: هذا جواب سؤال سابق غير مذكور، تقديره: أنه قال له: من ربك؟ فقال: ربي الذي يحيي ويميت. قال نمروذ: أنا أحيي وأميت. قال ابن عباس: يقول: أترك من شئت، وأقتل من شئت. فإن قيل: لم انتقل إبراهيم إلى حجة أخرى، وعدل عن نصرة الأولى، فالجواب: أن إبراهيم رأى من فساد معارضته أمراً على ضعف فهمه، فإنه عارض اللفظ بمثله، ونسي اختلاف الفعلين، فانتقل إلى حجة أخرى، قصداً لقطع المحاجّ، لا عجزاً عن نصرة الأولى. قوله تعالى: {فبهت الذي كفر} أي: انقطعت حجته، فتحير، وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن السميفع، فبهت، بفتح الباء والهاء. وقرأ أبو الجوزاء، ويحيى بن يعمر، وأبو حيوة: فبهت، بفتح الباء، وضم الهاء. قال الكسائي: ومن العرب من يقول: بهت، وبهت، بكسر الهاء وضمها {والله لا يهدي القوم الظالمين} يعني: الكافرين. قال مقاتل: لا يهديهم إلى الحجة، وعنى بذلك نمروذ.
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)} قوله تعالى: {أو كالذي مر على قرية} قال الزجاج: هذا معطوف على معنى الكلام الذي قبله، معناه: أرأيت كالذي حاج إبراهيم، أو كالذي مر على قرية؟. وفي المراد بالقرية قولان. أحدهما: أنها ببيت المقدس لما خربه بختنصر، قاله وهب، وقتادة، والربيع بن أنس. والثاني: أنها التي خرج منها الألوف حذر الموت، قاله ابن زيد: وفي الذي مر عليها ثلاثة أقوال. أحدها: أنه عزير، قاله علي بن أبي طالب، وأبو العالية، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وناجية بن كعب، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل. والثاني: أنه أرمياء، قاله وهب، ومجاهد، وعبد الله بن عبيد بن عمير. والثالث: أنه رجل كافر شك في البعث، نقل عن مجاهد أيضاً. والخاوية: الخالية، قاله الزجاج. وقال ابن قتيبة: الخاوية: الخراب، والعروش: السقوف، وأصل ذلك أن تسقط السقوف، ثم تسقط الحيطان عليها {قال أنى يحيي هذه الله} أي: كيف يحييها. فإن قلنا: إن هذا الرجل نبي، فهو كلام من يؤثر أن يرى كيفية الإعادة، أو يستهولها، فيعظم قدرة الله، وإن قلنا: إنه كان رجلاً كافراً، فهو كلام شاك، والأول أصح. قوله تعالى: {فأماته الله مائة عام، ثم بعثه}. الاشارة الى قصته روى ناجية بن كعب عن علي رضي الله عنه قال: خرج عزير نبي الله من مدينته، وهو رجل شاب، فمر على قرية، وهي خاوية على عروشها، فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام، ثم بعثه، وأول ما خلق الله منه عيناه، فجعل ينظر إلى عظامه ينظم بعضها إلى بعض، ثم كسيت لحماً، ونفخ فيها الروح. قال الحسن: قبضه الله أول النهار، وبعثه آخر النهار بعد مائة سنة. قال مقاتل: ونودي من السماء: كم لبثت؟ قال قتادة: فقال: لبثت يوماً، ثم نظر فرأى بقية من الشمس، فقال: أو بعض يوم. فهذا يدل على أنه عزير، وقال وهب بن منبه: أقام أرميا بأرض مصر فأوحى الله إليه أن الحق بأرض إيلياء، فركب حماره، وأخذ معه سلة من عنب وتين، ومعه سقاء جديد، فيه ماء، فلما بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من القرى [والمساجد] نظر إلى خراب لا يوصف [فلما رأى هدم بيت المقدس كالجبل العظيم] قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ ثم نزل منها منزلاً، وربط حماره، [وعلق سقاءه] فألقى الله عليه النوم، ونزع روحه مئة عام، فلما مر منها سبعون عاماً، أرسل الله ملكاً إلى ملك من ملوك فارس، عظيم، فقال: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك، فتعمر بيت المقدس وإيلياء وأرضها حتى تعود أعمر ما كانت، [فقال الملك: أنظرني ثلاثة أيام حتى أتأهب لهذا العمل، ولما يصلحه من أداة العمل، فأنظره ثلاثة أيام]. فانتدب ثلاثمئة قهرمان، ودفع إلى كل قهرمان ألف عامل، وما يصلحه من أداة العمل [فسار إليها قهارمته ومعهم ثلاثمئة ألف عامل] فلما وقعوا في العمل، رد الله روح الحياة في عيني أرميا، وآخر جسده ميت، فنظر إليها تعمر، فلما تمت بعد ثلاثين سنة؛ رد الله إليه الروح، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنّه ونظر إلى حماره واقفاً كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى الرمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة، وقد أتى على ذلك ريح مائة عام، وبرد مائة عام، وحرّ مائة عام، لم تتغير ولم تنتقص شيئاً، وقد نحل جسم أرميا من البلى، فأنبت الله له لحماً جديداً، ونشز عظامه وهو ينظر، فقال له الله: انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه، وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال اعلم: أن الله على كل شيء قدير. وزعم مقاتل أن هذه القصة كانت بعد رفع عيسى عليه السلام. قوله تعالى: {كم لبثت} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم «لبثت» و«لبثتم» في كل القرآن باظهار التاء، وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي بالإدغام لبتَّ، قال أبو علي الفارسي: من بين «لبثت»، فلتباين المخرجين، وذلك أن الظاء والذال والثاء من حيز، والطاء والتاء والدال من حيز، فلما تباين المخرجان، واختلف الحيزان، لم يدغم. ومن أدغمها أجراها مجرى المثلين، لاتفاق الحرفين في أنهما من طرف اللسان، وأصول الثنايا، واتفاقهما في الهمس ورأى الذي بينهما من الاختلاف يسيراً، فأجراهما مجرى المثلين. فأما طعامه وشرابه، فقال وهب: كان معه مكتل فيه عنب وتين، وقلة فيها ماء. وقال السدي: كان معه تين وعنب، وشرابه من العصير، لم يحمض التين والعنب، ولم يختمر العصير. قوله تعالى: {لم يتسنه} قرأ ابن كثير ونافع: وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: {يتسنّه} و{اقتده} و{ما أغنى عني ماليه} و{سلطانيه} و{وماهيه} باثبات الهاء في الوصل. وكان حمزة يحذفهن في الوصل، ووافقه الكسائي في حذف موضعين {يتسنه} و{اقتده} وكلهم يقف على الهاء. ولم يختلفوا في {كتابيه} و{حسابيه} أنها بالهاء وصلاً ووقفاً. فأما معنى: {لم يتسنّه}، فقال ابن عباس، والحسن، وقتادة في آخرين: لم يتغير. وقال ابن قتيبة: لم يتغير بمر السنين عليه، واللفظ مأخوذ من السّنه، يقال: سانهت النخلة: إذا حملت عاماً، وحالت عاماً. قوله تعالى: {وانظر إِلى حمارك} قال مقاتل: انظر إليه، وقد ابيضت عظامه، وتفرقت أوصاله، فأعاده الله. قوله تعالى: {ولنجعلك آية للناس} اللام صلة لفعل مضمر تقديره: فعلنا بك ذلك لنريك قدرتنا، ولنجعلك آية للناس، أي: علَماً على قدرتنا، فأضمر الفعل لبيان معناه. قال ابن عباس: مات وهو ابن أربعين سنة، وابنه ابن عشرين سنة، ثم بعث وهو ابن أربعين، وابنه ابن عشرين ومائة، ثم أقبل حتى أتى قومه في بيت المقدس، فقال لهم: أنا عزير، فقالوا: حدثنا آباؤنا أن عزيراً مات بأرض بابل، فقال لهم: أنا هو أرسلني الله إليكم أجدد لكم توراتكم، وكانت قد ذهبت، وليس منهم أحد يقرؤها، فأملاها عليهم. قوله تعالى: {وانظر إِلى العظام} قيل: أراد عظام نفسه، وقيل: عظام حماره، وقيل هما جميعاً. قوله تعالى: {كيف ننشزها} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو {ننشرها} بضم النون الأولى، وكسر الشين وراء مضمومة. ومعناه: نحييها، يقال: أنشر الله الميت، فنشرهم. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ننشزها، بضم النون مع الزاي، وهو من النشز الذي هو الارتفاع. والمعنى: نرفع بعضها إلى بعض للأحياء. وقرأ الأعمش: ننشزها، بفتح النون، ورفع الشين مع الزاي وقرأ الحسن، وأبان عن عاصم: ننشرها، بفتح النون مع الراء، كأنه من النشر عن الطي، فكأن الموت طواها، والإحياء نشرها. قوله تعالى: {فلما تبين له} أي: بان له إحياء الموتى {قال أعلم} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «أعلم» مقطوعة الألف، مضمومة الميم. والمعنى: قد علمت ما كنت أعلمه غيباً مشاهدة. وقرأ حمزة والكسائي بوصل الألف، وسكون الميم على معنى الأمر، والابتداء، على قراءتهما بكسر الهمزة، وظاهر الكلام أنه أمر من الله له. وقال أبو علي: نزل نفسه منزلة غيره، فأمرها وخاطبها. وقرأ الجعفي عن أبي بكر، قال: «أعلم» بكسر اللام على معنى الأمر بإعلام الغير.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)} قوله تعالى: {وإِذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى} في سبب سؤاله هذا أربعة أقوال. أحدها: أنه رأى ميتة تمزقها الهوام والسباع، فسأل هذا السؤال، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني، وابن جريج، ومقاتل. وما الذي كانت هذه الميتة؟ فيه ثلاثة أقوال. أحدها: كان رجلاً ميتاً، قاله ابن عباس. والثاني: كان جيفة حمار، قاله ابن جريج، ومقاتل. والثالث: كان حوتاً ميتاً، قاله ابن زيد. والثاني: أنه لما بشر باتخاذ الله له خليلاً، سأل هذا السؤال ليعلم صحة البشارة، ذكره السدي عن ابن مسعود، وابن عباس. وروي عن سعيد بن جبير أنه لما بشر بذلك، قال: ما علامة ذلك؟ قال: أن يجيب الله دعاءك، ويحيي الموتى بسؤالك، فسأل هذا السؤال. والثالث: أنه سأل ذلك ليزيل عوارض الوسواس، وهو قول عطاء ابن أبي رباح. والرابع: أنه لما نازعه نمرود في إحياء الموتى، سأل ذلك ليرى ما أخبر به عن الله، وهذا قول محمد بن إسحاق. قوله تعالى: {أو لم تؤمن} أي: أولست قد آمنت أني أحيي الموتى؟ وقال ابن جبير: ألم توقن بالخلة؟ قوله تعالى: {بلى ولكن ليطمئن قلبي} «اللام» متعلقة بفعل مضمر، تقديره: ولكن سألتك ليطمئن، أو أرني ليطمئن قلبي، ثم في المعنى أربعة أقوال. أحدها: لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، قاله ابن عباس. والثاني: ليزداد قلبي يقيناً، قاله سعيد بن جبير. وقال الحسن: كان إبراهيم موقناً، ولكن ليس الخبر كالمعاينة. والثالث: ليطمئن قلبي بالخلة، روي عن ابن جبير أيضاً. والرابع: أنه كان قلبه متعلقاً برؤية إحياء الموتى، فأراد: ليطمئن قلبه بالنظر، قاله ابن قتيبة. وقال غيره: كنت نفسه تائقة إلى رؤية ذلك، وطالب الشيء قلق إلى أن يظفر بطلبته، يدل على أنه لم يسأل لشك، أنه قال: {أرني كيف تحيي الموتى} وما قال: هل تحيي الموتى. قوله تعالى: {فخذ أربعة من الطير} في الذي أخذ سبعة أقوال. أحدها: أنها الحمامة، والديك، والكركي، والطاووس، رواه عبد الله بن هبيرة، عن ابن عباس. والثاني: أنها الطاووس، والديك، والدجاجة السندية، والأوزة، رواه الضحاك عن ابن عباس. وفي لفظ آخر، رواه الضحاك مكان الدجاجه السندية الرأل، وهو فرخ النعام. والثالث: أنها الشعانين، وكانت قرباهم يومئذ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أنها الطاووس، والنسر، والغراب، والديك، نقل عن ابن عباس أيضاً. والخامس: أنها الديك، والطاووس، والغراب والحمام، قاله عكرمة، ومجاهد، وعطاء وابن جريج، وابن زيد. والسادس: أنها ديك، وغراب، وبط، وطاووس، رواه ليث عن مجاهد. والسابع: أنها الديك، والبطة، والغراب، والحمامة، قاله مقاتل. وقال عطاء الخراساني: أوحى الله إليه أن خذ بطة وغراباً أسود، وحمامة بيضاء، وديكاً أحمر. قوله تعالى: {فصرهن إليك} قرأ الجمهور بضم الصاد، والمعنى: أملهن إليك، يقال: صرت الشيء فانصار، أي: أملته فمال، وأنشدوا: الله يعلم أنا في تلفتنا *** يوم الفراق إلى جيراننا صور فمعنى الكلام: اجمعهن إليك. {ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً} فيه إضمار قطعهن. قال ابن قتيبة: أضمر «قطعهن» واكتفى بقوله: {ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً} عن قوله «قطعهن» لأنه يدل عليه، وهذا كما تقول: خذ هذا الثوب، واجعل على كل رمح عندك منه علماً. يريد: قطعه، وافعل ذلك، وقرأ أبو جعفر، وحمزة، وخلف، والمفضل، عن عاصم {فصرهن إليك} بكسر الصاد. قال اليزيدي: هما واحد، وقال ابن قتيبة: الكسر والضم لغتان: قال الفراء: أكثر العرب على ضم الصاد، وحدثني الكسائي أنه سمع بعض بني سليم يقول: صرته، فأنا أصيره. وروي عن ابن عباس، ووهب، وأبي مالك، وأبي الأسود الدؤلي، والسدي، أن معنى المكسورة الصاد: قطعهن. وروي عن أبي عبيدة أنه قال: معناه بالضم: اجمعهن، وبالكسر: قطعهن. قوله تعالى: {ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً} قال الزجاج: معناه: اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءاً، وروى عوف عن الحسن قال: اذبحهن ونتفهن، ثم قطعهن أعضاءاً، ثم خلط بينهن جميعاً، ثم جزئها أربعة أجزاء، وضع على كل جبل جزءاً. ثم تنحى عنهن، فدعاهن، فجعل يعدو كل عضو إلى صاحبه حتى استوين كما كن، ثم أتينه يسعين. وقال قتادة: أمسك رؤوسها بيده، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبضعة إلى البضعة، وهو يرى ذلك، ثم دعاهن، قأقبلن على أرجلهن يلقي لكل طائر رأسه. وفي عدد الجبال التي قسمن عليها قولان. أحدهما: أنه قسمهن على أربعة أجبل، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة. وروي عن ابن عباس قال: جعلهن أربعة أجزاء في أرباع الأرض، كأنه يعني جهات الإنسان الأربع. والثاني: أنه قسمهن سبعة أجزاء على سبعة أجبل، قاله ابن جريج، والسدي. قوله تعالى: {ثم ادعهن يأتينك سعياً} قال ابن قتيبة: يقال: عدواً، ويقال: مشياً على أرجلهن، ولا يقال للطير إذا طار: سعى {واعلم أن الله عزيز} أي: منيع لا يغلب {حكيم} فيما يدبر. ويزعم مقاتل أن هذه القصة جرت لإبراهيم بالشام قبل أن يكون له ولد، وقبل نزول الصحف عليه، وهو ابن خمس وسبعين سنة.
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} قوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} حدثنا عن ثعلب أنه قال: إنما المثل-والله أعلم- للنفقة، لا للرجال، ولكن العرب إذا دل المعنى: على ما يريدون، حذفوا، مثل قوله تعالى: {وأُشربوا في قلوبهم العجل} فأضمر «الحب»، لأن المعنى معلوم، فكذلك هاهنا. أراد: مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم. ونحو هذا قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم} [آل عمران: 18]. يريد: بخل الباخلين: فحذف البخل. وفي المراد ب «سبيل الله» قولان. أحدهما: أنه الجهاد. والثاني: أنه جميع أبواب البر. قال أبو سليمان الدمشقي. والآية مردودة على قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم} وقد أعلم الله عز وجل بضرب هذا المثل، أن الحسنة في النفقة في سبيله تضاعف بسبعمائة ضعف. وقال الشعبي: نفقة الرجل على نفسه وأهل بيته تضاعف سبعمائة ضعف. قال ابن زيد: {والله يضاعف لمن يشاء} أي: يزيد على السبعمائة.
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} قوله تعالى: {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله} قال ابن السائب، ومقاتل: نزلت في عثمان بن عفان في نفقته في غزوة تبوك، وشرائه بئر رومة، ركية بالمدينة، تصدق بها على المسلمين. وفي عبد الرحمن بن عوف حين تصدق بأربعة آلاف درهم، وكانت نصف ماله. وأما المن ففيه قولان. أحدها: أنه المن على الفقير، ومثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه المن على الله بالصدقة، روي عن ابن عباس. فإن قيل: كيف مدحهم بترك المن، ووصف نفسه بالمنان؟ فالجواب: أنه يقال: منّ فلان على فلان: إذا أنعم عليه، فهذا الممدوح، قال الشاعر: فمنِّي علينا بالسلام فإنما *** كلامك ياقوت ودر منظم أراد بالمن: الإنعام. وأما الوجه المذموم، فهو أن يقال: منّ فلان على فلان: إذا استعظم ما أعطاه، وافتخر بذلك، قال الشاعر في ذلك: أنلت قليلاً ثم أسرعت منَّة *** فنيلك ممنون كذاك قليل ذكر ذلك أبو بكر الأنباري. وفي الأذى قولان. أحدهما: أنه مواجهة الفقير بما يؤذيه، مثل أن يقول له: أنت أبداً فقير، وقد بليت بك، وأراحني الله منك. والثاني: أن يخبر بإحسانه إلى الفقير، من يكره الفقير إطلاعه على ذلك، وكلا القولين يؤذي الفقير وليس من صفة المخلصين في الصدقة. ولقد حدثنا عن حسان بن أبي سنان أنه كان يشتري أهل بيت الرجل وعياله، ثم يعتقهم جميعاً، ولا يتعرف إليهم ولا يخبرهم من هو.
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} قوله تعالى: {قول معروف} أي: قول جميل للفقير، مثل أن يقول له: يوسع الله عليك {ومغفرة} أي: يستر على المسلم خلته وفاقته، وقيل: أراد بالمغفرة التجاوز عن السائل إن استطال على المسؤول وقت رده {خير من صدقة يتبعها أذى} وقد سبق بيانه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} قوله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم} أي: لا تبطلوا ثوابها كما تبطل ثواب صدقة المرائي الذي لا يؤمن بالله وهو المنافق {فمثله} أي: مثل نفقته، كمثل صفوان، قال ابن قتيبة: الصفوان: الحجر، والوابل: أشد المطر، والصلد: الأملس. وقال الزجاج: الصفوان: الحجر الأملس، وكذلك الصفا. وقال ثعلب: الصلد: النقي. وروي عن ابن عباس، وقتادة {فتركه صلداً} قالا: ليس عليه شيء. وهذا مثل ضربه الله تعالى للمرائي بنفقته، لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء مما أنفق.
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)} قوله تعالى: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله} أي: طلباً لرضاه. وفي معنى التثبيت قولان. أحدهما: أنه الإنفاق على يقين وتصديق، وهذا قول الشعبي، وقتادة، والسدي، في آخرين. والثاني: أنه التثبيت لارتياد محل الإنفاق، فهم ينظرون أين يضعونها، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وأبي صالح. قوله تعالى: {كمثل جنة} الجنة: البستان وقرأ مجاهد، وعاصم الجحدري «حبة» بالحاء، والربوة: ما ارتفع، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، «بربوة» بضم الراء، وقرأ عاصم، وابن عامر بفتح الراء، وقرأ الحسن والأعمش بكسر الراء، وقرأ ابن عباس، وأبو رزين برباوة، بزيادة ألف، وفتح الراء، وقرأ أبيّ بن كعب، وعاصم الجحدري كذلك، إلا أنهما ضما الراء، وكذلك خلافهم في «المؤمنين». قال الزجاج: يقال رَبوة ورِبوة ورُبوة ورباوة. والموضع: المرتفع من الأرض. إذا كان له ما يرويه من الماء، فهو أكثر ريعاً من السفل. وقال ابن قتيبة: الربوة الارتفاع، وكل شيء ارتفع وزاد، فقد ربا، ومنه الربا في البيع. قوله تعالى: {فآتت أُكلها} قرأ ابن كثير، ونافع: أكلها. والأكل بسكون الكاف حيث وقع، ووافقهما أبو عمرو، فيما أضيف إلى مؤنث، مثل {أكلها دائم} فأما ما أضيف إلى مذكر مثل: أكله؟ أو كان غير مضاف إلى مكنى: مثل {أُكل خمطٍ} فثقله أبو عمرو. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي جميع ذلك مثقلا، وأكلها، أي ثمرها {ضعفين} أي: مثلين. فأما «الظل» فقال ابن قتيبة: هو أضعف المطر، وقال الزجاج: هو المطر الدائم، الصغار القطر الذي لا تكاد تسيل منه المثاعب. قال ثعلب: وهذا لفظ مستقبل وهو لأمر ماض، فمعناه: فان لم يكن أصابها وابل فطل. ومعنى هذا المثل: أن صاحب هذه الجنة لا يخيب، فإنها إن أصابها الطل حسنت، وإن أصابها الوابل أضعفت، فكذلك نفقة المؤمن المخلص. والبصير من أسماء الله تعالى، معناه: المبصر. قال الخطابي: وهو فعيل بمعنى مفعل، كقولهم: أليم بمعنى مؤلم.
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)} قوله تعالى: {أيود أحدكم} هذه الآية متصلة بقوله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم} ومعنى: «أيود» أيُحب، وإنما ذكر النخيل والأعناب، لأنهما من أنفس ما يكون في البساتين، وخصّ ذلك بالكبير، لأنه قد يئس من سعي الشباب في اكسابهم. قوله تعالى: {وله ذرية ضعفاء} أي: ضعاف، وإذا ضعفت الذرية كان أحنى عليهم، وأكثر إشفاقاً {فأصابها} يعني: الجنة {إِعصار} وهي ريح شديدة، تهب بشدة، فترفع إلى السماء تراباً، كأنه عمود. قال الشاعر: إِن كنت ريحاً فقد لاقيتَ إِعصاراً *** أي: لاقيت أشد منك. فان قيل: كيف جاز في الكلام أن يكون له جنة فأصابها، ولم يقل: فيصيبُها؟ أفيجوز أن يقال: أتود أن يصيبَ مالاً، فضاع، والمراد: فيضيع؟ فالجواب: أن ذلك جائز في «وددت»، لأن العرب تلقاها مرةً ب «أن»، ومرةً ب «لو»، فيقولون: وددت لو ذهبْت عنا، ووددت أن تذهب عنا، قاله الفراء، وثعلب. فصل وهذه الآية مثلٌ ضربه الله تعالى في الحَسْرةِ بسلب النعمة عند شدّة الحاجة. وفيمن قَصَدَ به ثلاثة أقوال. أحدها: أنه مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عُمره، قاله ابن عباس. والثاني: أنه مثل للمفرط في طاعة الله تعالى حتى يموت، قاله مجاهد. والثالث: أنه مثل للمرائي في النفقة، ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه، قاله السدي.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم} في سبب نزولها قولان. أحدهما: أن الأنصار كانوا إذا جذّوا النخل، جاء كل رجل بشيء من ذلك فعلقه في المسجد، فيأكل منه فقراء المهاجرين، وكان أناسٌ ممن لا يرغب في الخير يجيء أحدهم بالقنو فيه الحشف والشيص، فيعلقه، فنزلت هذه الآية. هذا قول البراء بن عازب. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بزكاة الفطر، فجاء رجل بتمر رديء، فنزلت هذه الآية. هذا قول جابر بن عبد الله. وفي المراد بهذه النفقة قولان. أحدهما: أنها الصدقة المفروضة، قاله عبيدة السلماني في آخرين. والثاني: أنها التطوع. وفي المراد بالطيب هاهنا: قولان. أحدهما: أنه الجيّد الأنفس، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الحلال، قاله أبو معقل في آخرين. قوله تعالى: {ولا تيمموا} أي: لا تقصدوا. والتيمم في اللغة: القصد. قال ميمون بن قيس الأعشى: تَيمَمتُ قيساً وكم دونه *** من الأرض من مَهْمَهٍ ذي شزَن وفي الخبيث قولان. أحدهما: أنه الرديء، قاله الأكثرون، وسبب الآية يدل عليه. والثاني: أنه الحرام، قاله ابن زيد. قوله تعالى: {ولستم بآخذيه إِلا أن تغمضوا فيه} قال ابن عباس: لو كان بعضكم يطلب من بعض حقاً له، ثم قضاه ذلك، ولم يأخذه إِلى أن يرى أنه قد أغمض عن بعض حقه. وقال ابن قتيبة: أصل هذا أن يصرف المرء بصره عن الشيء، ويغمضه، فسمي الترخص إغماضاً. ومنه قول الناس للبائع: أغمض، أي: لا تشخص، وكن كأنك لا تبصر. وقال غيره: لما كان الرجل إذا رأى ما يكره، أغمض عينيه، لئلا يرى جميع ما يكره؛ جعل التجاوز والمساهلة في كل شيء إغماضاً. قوله تعالى: {واعلموا أن الله غني} قال الزجاج: لم يأمركم بالتصدق عن عوز، لكنه بلا أخباركم، فهو حميد على ذلك. يقال: قد غني زيد، يغنى غنى مقصوراً: إذا استغنى، وقد غني القوم: إذا نزلوا في مكان يغنيهم، والمكان الذي ينزلون فيه مغنى. والغواني: النساء، قيل: إنما سمين بذلك، لأنهن غنين بجمالهن، وقيل: بأزواجهن. فأما «الحميد» فقال الخطابي: هو بمعنى المحمود، فعيل بمعنى مفعول.
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)} قوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر} قال الزجاج: يقال: وعدته أعده وعداً وعدة وموعداً وموعدة وموعوداً، ويقال: الفَقر، والفُقر. ومعنى الكلام: يحملكم على أن تؤدُّوا في الصدقات الرديء، يخوفكم الفقر بإعطاء الجيد. ومعنى: يعدكم الفقر، أي: بالفقر، وحذفت الباء. قال الشاعر: أمرتُكَ الخيرَ فافعل ما أُمِرت به *** فقد تركتك ذا مال وذا نشبِ وفي الفحشاء قولان. أحدهما: البخل. والثاني: المعاصي. قال ابن عباس: والله يعدكم مغفرة لفحشائكم، وفضلاً في الرزق.
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء} في المراد بهذه الحكمة أحد عشر قولاً. أحدها: أنها القرآن، قاله ابن مسعود، ومجاهد، والضحاك، ومقاتل في آخرين. والثاني: معرفة ناسخ القرآن، ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدمه، ومؤخره، ونحو ذلك، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: النبوة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: الفهم في القرآن، قاله أبو العالية، وقتادة، وإبراهيم. والخامس: العلم والفقه، رواه ليث عن مجاهد. والسادس: الإصابة في القول، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والسابع: الورع في دين الله، قاله الحسن. والثامن: الخشية لله، قاله الربيع بن أنس. والتاسع: العقل في الدين، قاله ابن زيد. والعاشر: الفهم، قاله شريك. والحادي عشر: العلم والعمل، لا يسمى الرجل حكيماً إِلا إِذا جمعهما، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: {ومن يُؤتَ الحكمة} قرأ يعقوب بكسر تاء «يؤت»، ووقف عليها بهاء. والمعنى: ومن يؤته الله الحكمة. وكذلك هي في قراءة ابن مسعود بهاء بعد التاء. قوله تعالى: {وما يذكر} قال الزجاج: أي: وما يتفكر فكراً يذكر به ما قص من آيات القرآن إلا ذوو العقول. قال ابن قتيبة: «أولو» بمعنى: ذوو، وواحد «أولو» «ذو»، و«أولات»: «ذات».
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)} قوله تعالى: {أو نذرتم من نذرٍ} النذر: ما أوجبه الإنسان على نفسه، وقد يكون مطلقاً، ويكون معلقاً بشرط {فان الله يعلمه} قال مجاهد: يُحصيه، وقال الزجاج: يجازى عليه. وفي المراد بالظالمين هاهنا، قولان. أحدهما: أنهم المشركون، قاله مقاتل. الثاني: المنفقون بالمنّ والأذى والرياء، والمنذرون في المعصية، قاله أبو سليمان الدمشقي. والأنصار: المانعون. فمعناه: مالهم مانع يمنعهم من عذاب الله.
{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)} قوله تعالى: {إِن تُبدوا الصدقاتِ فنعماهي} قال ابن السائب: لما نزل قوله تعالى: {وما أنفقتم من نفقة} قالوا: يا رسول الله، صدقة السر أفضل، أم العلانية؟ فنزلت هذه الآية قال الزجاج، يقال: بدا الشيء يبدو: إذا ظهر، وأبديته إبداءاً: إذا أظهرته، وبدا لي بداء: إذا تغير رأيي عما كان عليه. قوله تعالى: {فنعما هي} في «نعم» أربع لغات. «نعم» بفتح النون، وكسر العين، مثل: عَلِمَ. و«نعم» بكسرها، و«نعم» بفتح النون، وتسكين العين، و«نعم» بكسر النون، وتسكين العين. وأما قوله {فنعما هي} فقرأ نافع في غير رواية «ورش»، وأبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر، والمفضل: «فنعما» بكسر النون، والعين ساكنة. وقرأ ابن كثير، وعاصم في رواية حفص، ونافع في رواية «ورش» ويعقوب بكسر النون والعين. وقرأ ابن عامر، وحمزة والكسائي، وخلف: «فنعما» بفتح النون، وكسر العين، وكلهم شددوا الميم. وكذلك خلافهم في سورة النساء. قال الزجاج: «ما» في تأويل الشيء، أي: فنعم الشيء هي. وقال أبو علي: نعم الشيء إبداؤها. وقوله تعالى: {فهو خير لكم} يعني الإخفاء. واتفق العلماء على أن إخفاء الصدقة النافلة أفضل من إظهارها، وفي الفريضة قولان. أحدهما: أن إظهارها أفضل، قاله ابن عباس في آخرين. واختاره القاضي أبو يعلى. وقال الزجاج: كان إخفاء الزكاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحسن، فأما اليوم، فالناس يسيؤون الظن، فاظهارها أحسن. والثاني: إخفاؤها أفضل، قاله الحسن، وقتادة، ويزيد بن أبي حبيب. وقد حمل أرباب القول الأول الصدقات في الآية على الفريضة، وحملوا {وإن تخفوها} على النافلة، وهذا قول عجيب. وإنما فضلت صدقة السر لمعنيين. أحدهما: يرجع إلى المعطي، وهو بُعْدُه عن الرياء، وقربه من الإخلاص، والإعراض عما تؤثر النفس من العلانية. والثاني: يرجع إلى المعطى، وهو دفع الذل عنه باخفاء الحال، لأنه في العلانية ينكسر. قوله تعالى: {ويكفِّرُ عنكم مِن سيئاتكم} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم {ونكفر عنك} بالنون والرفع، والمعنى: ونحن نكفر عنكم، ويجوز أن يكون مستأنفاً. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: و«نكفّر» بالنون وجزم الراء. قال أبو علي: وهذا على حمل الكلام على موضع قوله: {فهو خير لكم} لأن قوله: {فهو خير لكم} في موضع جزم، ألا ترى أنه لو قال: وإِن تخفوها يكون أعظم لأجركم لجزم، ومثله {لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن} [المنافقون: 10] حمل قوله. و«أكن»، على موضع «فأصدَّق». وقرأ ابن عامر: و«يكفر» بالياء والرفع، وكذلك عن حفص عن عاصم على الكناية عن الله عز وجل، وقرأ أبان عن عاصم، و«تكفر» بالتاء المرفوعة، وفتح الفاء مع تسكين الراء. قوله تعالى: {من سيئاتكم} في «من» قولان. أحدهما: أنها زائدة. والثاني: أنها داخلة للتبعيض. قال أبو سليمان الدمشقي: ووجه الحكمة في ذلك أن يكون العباد على خوف ووجل.
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)} قوله تعالى: {ليس عليك هداهم} في سبب نزولها قولان. أحدهما: أن المسلمين كرهوا أن يتصدقوا على أقربائهم من المشركين، فنزلت هذه الآية، هذا قول الجمهور. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم» فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير. والخير في الآية، أريد به المال، قاله ابن عباس، ومقاتل. ومعنى: {فلأنفسكم}، أي: فلكم ثوابه. قوله تعالى: {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} قال الزجاج: هذا خاص للمؤمنين، أعلمهم الله أنه قد علم أن مُرادَهم ما عنده، وإذا أعلمهم بصحة قصدهم، فقد أعلمهم بالجزاء عليه. قوله تعالى: {يوفَّ إِليكم} أي: توفون أجره ومعنى الآية: ليس عليك أن يهتدوا، فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام، فان تصدقتم عليهم أُثبتم. والآية محمولة على صدقة التطوع، إذ لا تجوز أن يعطى الكافر من الصدقة المفروضة شيئاً.
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)} قوله تعالى: {للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله} لما حثهم على الصدقات والنفقات، دلهم على خير من تُصدّق عليه. وقد تقدم تفسير الإحصار عند قوله {فان أُحصرتم} [البقرة: 11] وفي المراد ب {الذين أحصروا} أربعة أقوال. أحدها: أنهم أهل الصفة حبسوا أنفسهم على طاعة الله، ولم يكن لهم شيء، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنهم فقراء المهاجرين، قاله مجاهد. والثالث: أنهم قوم حبسوا أنفسهم على الغزو، فلا يقدرون على الاكتساب، قاله قتادة. والرابع: أنهم قوم أصابتهم جراحات مع النبي صلى الله عليه وسلم، فصاروا زمنى، قاله سعيد بن جبير، واختاره الكسائي، وقال: أحصروا من المرض، ولو أراد الحبس، لقال: حُصروا، وإنما الإحصار من الخوف، أو المرض. والحصر: الحبس في غيرهما. وفي سبيل الله قولان. أحدهما: أنه الجهاد، والثاني: الطاعة. وفي الضرب في الأرض قولان. أحدهما: أنه الجهاد لم يمكنهم لفقرهم، نقل عن ابن عباس. والثاني: الكسب، قاله قتادة. وفي الذي منعهم من ذلك ثلاثة أقوال. أحدها: الفقر، قاله ابن عباس. والثاني: أمراضهم، قاله ابن جبير، وابن زيد. والثالث: التزامهم بالجهاد، قاله الزجاج. قوله تعالى: {يحسبهم الجاهل} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي «يحسبهم» و«يَحْسِبَنَّ» بكسر السين في جميع القرآن. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وأبو جعفر بفتح السين في الكل. قال أبو علي: فتح السين أقيس، لأن الماضي إذا كان على «فَعِلَ»، نحو: حسب، كان المضارع على «يفعل»، مثل: فرق يفرق، وشرب يشرب، والكسر حسن لموضع السمع. قال ابن قتيبة: لم يرد الجهل الذي هو ضد العقل، إنما أراد الجهل الذي هو ضد الخُبْر، فكأنه قال: يحسبهم من لا يخبرُ أمرهم. والتعفف: ترك السؤال، يقال: عف عن الشيء وتعفّف. والسيما: العلامة التي يعرف بها الشيء، وأصله من السمة. وفي المراد بسيماهم ثلاثة أقوال. أحدها: تجملهم، قاله ابن عباس. والثاني: خشوعهم، قاله مجاهد. والثالث: أثر الفقر عليهم، قاله السدي والربيع بن أنس، وهذا يدل على أن للسيما حكماً يتعلق بها. قال إمامنا أحمد في الميت يوجد في دار الحرب، ولا يعرف أمره: ينظر إلى سيماه، فإن كان عليه سِيما الكفار من عدم الختان، حكم له بحكمهم، فلم يدفن في مقابر المسلمين، ولم يصل عليه، وإن كان عليه سيما المسلمين حكم له بحكمهم. وأما الإلحاف، فهو: الإلحاح، قال ابن قتيبة: يقال: ألحف في المسأله: إذا ألح، وقال الزجاج: معنى ألحف: شَمِل بالمسألة، ومنه اشتقاق اللحاف، لأنه يشمل الإنسان بالتغطية، فإن قيل: فهل كانوا يسألون غير ملحفين؟ فالجواب: أن لا، وإنما معنى الكلام: أنه لم يكن منهم سؤال، فيكون إلحاف. قال الأعشى: لا يغمز الساق من أينٍ ولا وَصَبٍ *** ولا يعضُّ على شرسوفِهِ الصّفر معناه: ليس بساقه أين ولا وصب، فيغمزها لذلك. قال الفراء: ومثله أن تقول: قلما رأيت مثل هذا الرجل، ولعلك لم تر قليلاً ولا كثيراً من أشباهه، فهم لا يسألون الناس إلحافاً، ولا غير إلحاف. وإلى نحو هذا ذهب الزجاج، وابن الأنباري في آخرين.
|